
التَّمرُّد الأسْرَع علي هذهِ العُقوبات أعلَنته السُّلطات التركيّة أمس علي لِسان الدكتور إبراهيم كالن، المُتحَدِّث باسم الرئيس رجب طيب أردوغان الذي أكّد أنّ بِلاده لن تَخضَع للتَّهديدات الأمريكيّة وتتراجَع بالتَّالي عن صَفقة “إس 400” الروسيّة التي ستتسلّمها العامَ المُقبِل، كما أنّها لن تَلتَزِم بالعُقوبات الأمريكيّة التي ستَفرِض حَظرًا علي استيراد النِّفط من إيران، وسَتَتحرَّك وِفقًا لمَصالِحها الاقتصاديّة، فإيران دَولة جارة، وشَريك اقتصاديّ هام.
ومن غير المُستَبعد أن تحذو عِدّة دُوَل آسيويّة وأوروبيّة حَذو تركيا، وتَستَمِر في استيراد النِّفط الإيرانيّ علي رأسِها الصين التي تَحتَل المَرتبة الأُولي وتَستَورِد 600 ألف برميل يَوميًّا، تَليها الهند 450 ألف برميل، ثُمّ كوريا الجنوبيّة 250 ألف برميل، ثم تركيا التي تحتل المَرتبة الرابعة، ويَبلُغ حَجم وارِداتها من النِّفط الإيرانيّ 200 ألف برميل يَوميًّا.
ومِن المُفارقة أنّ هُناك أربَع دُوَل أُوروبيّة تَستَورِد النِّفط الإيراني هي إيطاليا (180 ألف برميل)، وفرنسا (110 آلاف برميل)، واليونان (100 ألف برميل)، وإسبانيا (70 ألف برميل)، إلي جانِب دولة الإمارات العربيّة المتحدة التي تَستورِد 100 ألف برميل يوميًّا أيضًا، رُغم أنّها دولة مُصَدِّرة للنِّفط، وتُنتِج ثلاثة ملايين برميل يَوميًّا تقريبًا.
الحُكومة الصينيّة أعرَبت عن قَلَقِها من هذهِ التَّهديدات الأمريكيّة باعتبارِها أكثر الدُّوَل استيرادًا للنِّفط الإيراني، وما زالَ مِن غَير المَعروف ما إذا كانت ستتَّخِذ مَوقِفًا رافِضًا ومُتحدِّيًا مِثل المَوقِف التركي، أم أنّها ستَرضَخ للتَّهديدات الأمريكيّة حِرصًا علي العَلاقات التجاريّة الضَّخمَة بين البَلدين؟ مِن المُبكِر إعطاء إجابة جازمة في هذا الإطار.
تَستَخدِم الولايات المتحدة وَرقة حُلفائِها العَرب، والمملكة العربيّة السعوديّة علي وَجه الخُصوص، لتَعويض هذه الدُّوَل عن أيِّ نَقصٍ في وارِداتها النِّفطيّة من إيران، وأعلن السيد خالد الفالح، وزير الطاقة السعودي استعداد بِلاده وجُهوزيّتها في هذا الإطار بسبب قُدراتِها التَّصديريّة النفطيّة العالِية علي غِرار ما فَعلت عندما استحوَذت علي الحِصّة العِراقيّة أثناء الحِصار الذي فَرضته أمريكا علي بغداد بعد حَرب الكويت، ويَصِل حجم هذهِ الحِصّة إلي أربعة ملايين برميل يَوميًّا.
العلاقات التركيّة الأمريكيّة تتّجِه نحو المَزيد من التَّوتُّر حَتمًا، ليس بسبب رفض الرئيس رجب طيب أردوغان وحُكومته التهديدات الأمريكيّة في حالِ إقدام حُكومته علي إكمال صفقة شراء صواريخ “إس 400” الروسيّة، أو المُضِي قُدمًا في استيراد النِّفط الإيراني، وإنّما أيضًا بسبب دعم أمريكا لقُوّات الحِماية الشعبيّة الكُرديّة، وحزب الاتّحاد الديمقراطي، الجَناح السياسي لأكراد سورية، وتوفيرها، أي أمريكا، الحِماية للداعية التركي فتح الله غولن، المُقيم علي أراضيها، ورَفضِها طلبات تَسليمه.
تركيا لم تَعُد تُعَوِّل كثيرًا علي علاقاتِها مع الولايات المتحدة وحِلف “الناتو”، وباتَت تتّجِه شَمالاً نحو روسيا، وشَرقًا نَحو العِراق وإيران والصين والهند، فإيران شَريكٌ تِجاريٌّ ضَخمٌ لها، ويَبلُغ حجم التبادل التجاري بين البَلدين حواليّ 11 مِليار دولار سَنويًّا، وجري الاتِّفاق علي رَفعِه إلي 35 مليار دولار في السنوات الأربَع القادِمة، وربٍما هذا ما قَصده الدكتور كالن في حَديثِه عن إيران كشَريكٍ تِجاريٍّ مُهِمٍّ لبِلادِه تركيا.
الدُّول الأُوروبيّة، وخاصَّةً فرنسا وإيطاليا وألمانيا، تَعهّدت بالاستمرار في التزامِها بالاتفاق النووي الإيراني رغم الانسحاب الأمريكي مِنه، واستيراد النفط من طِهران، واستخدام عملتها “اليورو” كبَديلٍ للدولار، لتَسديد أثمان هذه الوارِدات، لكن شركات أُوروبيّة عِملاقة مِثل “توتال” الفرنسيّة النفطيّة، و”بيجو” المُصَنِّعة للسيارات، بَدأت خَطوات الانسحاب من الأسواق الإيرانيّة تَجَنُّبًا للعُقوبات الأمريكيّة.
الرئيس ترامب بارِعٌ في خَلق الأعداء، وزَعزعَة استقرار العالم بأسْرِه، وعُقوباتِه التي بِصَدد فَرضِها علي إيران دَليلٌ إضافيٌّ يُثبِت هذهِ الحَقيقة، لكن التَّجاوب مع هذا الابتزاز لن يَكون مَضمونًا، وربّما تأتي النَّتائِج عَكسيّةً تمامًا، وسَيكون لتركيا أردوغان السَّبق في رَفع الكَرت الأحمر، وقِيادَة مَسيرَة التَّمرُّد.. واللهُ أعْلَم.
“رأي اليوم”
انتهي ** 1837