
وقال الكاتب عبد العزيز بوباكير في حوار مع مراسل إرنا، 'في أيلول / سبتمبر من سنة 1980 اندلعت الحرب بين العراق وإيران، وكانت حربا عبثية بكل المعاني، استنزفت مقدرات البلدين، وأدخلت المنطقة كلها في دوامة من اللااستقرار، منذرة بالامتداد إلي مناطق أخري، وإلهاب الشرق الأوسط كلّه'، مشيرا إلي أن الأيادي الأجنبية لم تكن بعيدة عما حدث'.
وينقل كاتب مذكرات الرئيس الشاذلي بن جديد عن الشاذلي نفسه أن 'موقف الجزائر واضح منذ البداية، إذ عبرت عن قناعة القائمين علي السلطة، بأنّ 'العالم الإسلامي، وخاصة إيران، يمثل عمقا استراتيجيا للأمة العربيّة ومكسبا مهما في محاربة الصهيونية، ومن الخطأ ترك هذا المكسب ينهار'.
ويضيف عبد العزيز بوباكير نقلا عن الرئيس الراحل الشاذلي أن 'الحل كان بالنسبة إلي الجزائر يتم حتما عن طريق المفاوضات، وأنه أبلغ الطرفين العراق وإيران باستعداد الجزائر لوقف هذا النزيف'.
ويقول بوباكير، بحسب ما رواه له الشاذلي بن جديد إن 'ما جعله يصاب بالدهشة هو قول صدام حسين إن من واجب الجزائر أن تقف إلي جانب العراق باسم الأخوة العربية، ولما ذكره بالاتفاق الذي وقعه مع شاه إيران في الجزائر سنة 1975 تحت رعاية الرئيس هواري بومدين ، أجاب صدام قائلا: 'لقد مزقته'.
ويقول الشاذلي –يضيف الكاتب بوباكير- إنه 'كلف وزير الخارجية وعضو المكتب السياسيّ محمد الصديق بن يحيي بالشروع في وساطة بين البلدين'.
وبحسب الكاتب عبد العزيز بوباكير، فإن الشاذلي 'كان واثقا من قدرة الصديق بن يحيي علي حل أعقد المشاكل في أسوء الظروف'، وأن اختياره له نابع من ثقة الإيرانيين فيه وأن مهمته ستكون إقناع صدام حسين'.
في هذا الصدد ينقل بوباكير عن الرئيس الشاذلي قوله للصديق بن يحيي: 'لقد نجحت في إطلاق سراح الرهائن الأمريكيين العام الماضي، ولا أنتظر منك الفشل هذه المرة، الإيرانيون يثقون فيك، وعليك أن تقنع صدام بالعودة إلي اتفاق الجزائر في 1975'.
ويضيف عبد العزيز بوباكير، نقلا عن الشاذلي بن جديد، أنه 'عشية الرابع من أيار / اي 1982 أبلغ أنّ طائرة 'غرومان' الرئاسية فقدت الاتصال مع برج المراقبة بعد تزودها بالوقود وإقلاعها من مطار 'لارناكا' باتجاه طهران، وشكل خلية أزمة في رئاسة الجمهورية لمتابعة هذه القضية، وخيم الغموض علي الحادث اللغز الذي ظل قائما'.
ويضيف الشاذلي –بحسب ما ينقله الكاتب بوباكير عنه أن 'كل الاحتمالات طرحت، من بينها احتمال أن أطرافا ليس في مصلحتهم إيقاف نزيف الحرب حولوا الطائرة عن مسارها، واحتمال تعرضها لخلل تقني ونزولها في مطار آخر، واحتمال عودتها إلي الجزائر'.
ويضيف الشاذلي 'قامت خلية الأزمة التي نصبت بالاتصال بالإيرانيين والأتراك والسوفييت والسوريين، لكن كل المعلومات التي استقتها منهم كانت شحيحة ومتضاربة، وتأكدوا بعدها أن الطائرة لم تصل طهران وأنها ربما تحطمت علي التراب الإيراني'.
ويضيف عبد العزيز بوباكير نقلا عن الشاذلي أن 'الإيرانيين أفادوهم بأن الطائرة تعرّضت لهجوم جوي من طائرتين مجهولتين، إضافة إلي المعلومات التي وصلت أعضاء الخلية التي تشير إلي وجود طائرتين عراقيتين في الأجواء التي كانت طائرة بن يحيي بها، ومعلومة أخري مهمة هي أن القذافي لما علم بالوساطة الجزائرية أوفد إلي طهران عبد السلام جلود علي متن طائرة من نفس النوع 'غرومان' لإفشال الوساطة'.
وأضاف بوباكير أن الشاذلي أشار له إلي 'أنّ السوريين أكدوا لهم أن طائرة من نوع 'غرومان' حطت بالفعل في مطار دمشق قبل أن تقلع باتجاه طهران'.
واسترسل بوباكير نقلا عن الشاذلي: وفي السابع من أيار / ماي دفن بن يحيي في مقبرة العالية، وفي اليوم الموالي عين الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي علي رأس وزارة الخارجية وطلب منه أن يكون علي رأس اهتماماته، بالإضافة إلي الملفات الحساسة لسياسة الجزائر الخارجية، متابعة ملف إسقاط طائرة بن يحيي. وتعهد أمام أعضاء اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني بكشف ملابسات حادث الطائرة والمسؤولين عنه'.
وبحسب رواية بوباكير عن الشاذلي 'أوفدت اللجنة التي كان يرأسها وزير النقل آنذاك صالح قوجيل والمكونة من مدنيين وعسكريين إلي مكان الحادث لإجراء تحقيق ميداني، وجمع حطام الطائرة والصاروخ الذي أسقطها واستطاعت اللجنة أن تحصل علي رقم الصاروخ وهو صاروخ روسي الصنع، بعد ذلك سافرت اللجنة إلي الاتحاد السوفييتي مكلفة بمهمة لتحصل من هذا البلد علي الجهة التي بيع لها الصاروخ'.
ويضيف بوباكير نقلا عن الشاذلي أن 'السوفييت بدأوا يماطلون ووقعوا في حرج كبير'، وأن الشاذلي أكد له: 'قلت لأعضاء اللجنة أن يخبروا السوفييت بأن المسألة متعلقة بمستقبل علاقاتنا إن كنتم أصدقاء سلموا لنا اسم البلد الذي بيع له الصاروخ ونعدكم أننا لن نذكر مصدر المعلومة وإن رفضتم فإننا سنقطع العلاقات الدبلوماسية معكم. ولأن مصالح الاتحاد السوفييتي كانت كبيرة مع الجزائر، اضطروا في النهاية إلي إخبارنا أن الصاروخ بيع للعراقيين، واتضح أن الصاروخ الذي أسقط طائرة بن يحيي عراقي.
ويقول بوباكير إن الجزائر واصلت مساعيها الحميدة من أجل إحلال السلم في المنطقة، حيث كلف الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي بمتابعة ملف إسقاط طائرة بن يحيي والتقي صدام، وبعد عودته قال له: إنه لأول مرة يري صدام مهزوزا يتحدث من موقع ضعف، وطلب منه عقد اجتماع في الجزائر بين التقنيين الجزائريين والعراقيين لدراسة كافة جوانب الملف، وطلب منه تبليغه ثقته في إعلان نتائج التحقيق'.
وبحسب الشاذلي 'كان صدام حسين كعادته يراوغ ويسعي إلي التملّص من مسؤوليته، رغم أنه كان يعرف أن الصاروخ الذي أسقط الطائرة عراقي وذلك حتي لا يظهر في أعين الرأي العام العالمي أنه يريد مواصلة الحرب في وقت كان يعتقد أن كفتها مالت إليه'.
ويضيف بوباكير قائلا: 'أكد لي الشاذلي بن جديد أنّه التقي بعد ذلك صدام وطلب منه أن يلتقيا علي انفراد للتطرّق إلي الأمر، وقال له في بداية اللقاء الذي جمعهما 'إن الشعب الجزائري مازال إلي اليوم متأثرا لحادث موت بن يحيي ومستاء لأنكم أنتم من طلب الوساطة ووقعتم في الجزائر أثناء انعقاد مؤتمر عدم الانحياز علي اتفاق الجزائر بخصوص 'شط العرب' ثم أعلنتم الحرب وتطلبون منّا أن نقف إلي جانبكم؟ نحن لا نؤمن بالتضامن العرقي وشعارنا البادئ بالظلم أظلم'.
ويروي بوباكير عن الشاذلي أنه واجه صدام بالحقائق التي توصلت إليها لجنة التحقيق، وأخبره قائلا: 'أنتم من أسقط الطائرة وأنا أملك الدليل علي ذلك، وأعرف أيضا أنكم لم تكونوا تقصدون ذلك، كنتم تريدون إسقاط طائرة عبد السلام جلود الذي كان يسعي بأمر من القذافي إلي التشويش علي الوساطة الجزائرية، أطلب منكم فقط الاعتراف بذلك، والاعتراف فضيلة حتي في السياسة، أرجوكم ألا تضعوني في حرج أمام الشعب الجزائري، لأني التزمت أمامه أن أكشف له الحقيقة'.
ويضيف بوباكير قال لي الشاذلي 'إن صدام حسين صمت مطأطئا رأسه، دلالة علي الاعتراف، ثم طلب مني مواصلة الوساطة، لأنه لا يري بلدا آخر أقدر وأجدر بذلك من الجزائر'.
وبحسب الكتاب عبد العزيز بوباكير، فإن الشاذلي كان قد تعهد أمام أعضاء اللجنة المركزية للحزب 'جبهة التحرير الوطني' بكشف حقيقة موت بن يحيي للشعب الجزائري، ولكنه لم يفعل'، وبرر ذلك 'بخشية المشاعر الانعزالية المعادية للعرب التي بدأت تنتشر في الشارع الجزائري، بعد أحداث الربيع البربري، وحادث الطائرة، وهو الأمر الذي عرضه للملامة وغضب الشعب عليه'.
يأتي تصريح كاتب مذكرات الرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد، في سياق حقائق جديدة عن عملية اغتيال وزير الخارجية الجزائري الأسبق محمد الصديق بن يحيي أوردها وزير الدفاع الجزائري آنذاك 'خالد نزار'، في الجزء الثاني من مذكراته التي ستصدر في تشرين الأول / أكتوبر المقبل، عبر فيها نزار عن 'عدم استلطافه' لصدام حسين، واصفا إياه بـ 'الدكتاتور'، وأنه 'ليس هناك أحد يمكنه إعطاء الأوامر بإسقاط الطائرة غيره'.
ويقول خالد نزار في أحد مقاطع مذكراته، : 'عندي سبب آخر لأن لا أكن أي تعاطف مع صدام حسين، فهو من أعطي الأوامر لإسقاط طائرة 'الغرومان غولفستريم 2' الرئاسية التي كانت تقل وزيرنا للشؤون الخارجية محمد الصديق بن يحيي والوفد المرافق له في مهمة سلام في المنطقة'، مسترسلا 'محمد الصديق بن يحيي مات في 3 أيار / مايو 1982 مع ثمانية من إطارات وزارة الخارجية وصحفي وأربعة من طاقم الطائرة'.
وأوضح نزار أن هناك 'لجنة تحقيق جزائرية سارعت إلي عين المكان برئاسة وزير النقل آنذاك صالح غوجيل. وحينها وجد تقنيو الطيران عندنا بين حطام الطائرة، شظايا صاروخ جو-جو فجر الطائرة الجزائرية، وتبين أن الصاروخ هو من شحنة صواريخ باعها الروس للعراق. وقد تحصلت الجزائر علي الرقم التسلسلي للصاروخ'.
وتساءل خالد نزار باستنكار: 'من يمكنه، باستثناء الديكتاتور، أن يقرر إسقاط طائرة مثل هذه؟ وأية 'مبررات دولة' منعت بن جديد من إعلان نتائج التحقيق، والاحتجاج، وطلب توضيحات من صدام'؟ مؤكدا أن كل ذلك 'كان فوق طاقة بن جديد'، في إشارة إلي الرئيس الجزائري 'الشاذلي بن جديد'، مستطردا أنه 'سنوات من بعد، وزير النقل آنذاك، ورئيس لجنة التحقيق تهرب بحذر من مسألة مسؤولية تحطيم طائرتنا'.
وبحسب خالد نزار، فإن 'موقف المسؤولين العراقيين في ذلك الوقت لم يكن يساعد علي تبرئتهم. بل بالعكس، لذلك اكتفوا بإلقاء التهم علي الإيرانيين، في بيان جد مقتضب'.
وأضاف نزار أنه 'حتي الراحل بشير بومعزة رئيس مجلس الأمة السابق الذي لا يمكننا أن نشك في مشاعره تجاه صدام وعدم حبه للإيرانيين كان مضطربا'. وأنه كان هناك تفصيل أقلقته، وهو غياب طارق عزيز الرئيس القوي للدبلوماسية العراقية عن جنازة بن يحيي'. ويقول نزار إن 'بومعزة طرح هذه الملاحظة علي طارق عزيز، فرد بالقول: أفهم من أسئلتك أن تصريحاتي لم تقنعكم تماما'. ويضيف نزار أن 'بومعزة ختم روايته لهذه المقابلة مع المسؤول العراقي بملاحظات يعبر فيها عن شكوكه ومرارته'.
ويعتقد اللواء المتقاعد خالد نزار أن سبب إسقاط العراق للطائرة الجزائرية هو أن 'القومية العربية للبعث العراقي وطموحها لقيادة العرب كان يجب أن لا تواجه لا رفضا ولا منافسة، في حين الوساطة الجزائرية كانت مدعمة بملف جيد ويقودها متمكن، وكان لديها كل الحظوظ للنجاح'.
وبحسب خالد نزار، فإن صدام لم يكن ليقبل أن عربيا يتوسط بين عربي وغير عربي، فبالنسبة إليه 'عدو بلد عربي هو عدو لكل العرب. والجزائريون بالنسبة إليه سيأتون ويتدخلون في قضايا لا تخصهم'.
وانتقد خالد نزار كثيرا صدام حسين، ووصفه بـ 'الديكتاتور الذي لا يسمح بأن تسدي له أية نصيحة وأية دعوة للاعتدال'، وأنه مثل 'هتلر يظن أنه يمكن أن يواجه العالم كله، ومثل هتلر قاد جيشه إلي الكارثة وقاد بلده إلي الخراب، وقاد نفسه إلي أفق مسدود'، مضيفا أن 'صدام نسج بيديه الحبل التي شنق بها في كانون الأول / ديسمبر 2006'.
وبحسب نزار، فإن 'الديكتاتور وقع في الفخ الذي نصبته له الديبلوماسية الأمريكية التي قرأت جيدا نفسية الرجل التي أطلقته الولايات المتحدة الأمريكية علي إيران الخميني. ثم قالت له افعل ما تشاء في الكويت، فانساق ورأسه في الأسفل علي الكويت'.
ويري خالد نزار أن صدام حسين 'كان يريد إعادة رسم الشرق الأوسط علي مزاجه ولم يكن يعلم أن الشرق الأوسط الجديد قد أعد في علب جورج بوش الأب والإبن. وأن العراق أريد له أن يتحول إلي رقعة للصراعات ممزق بنعرات المذهبية'.
لهذه الأسباب، يؤكد وزير الدفاع الأسبق خالد نزار أنه 'لم يكن واردا إطلاقا إرسال عناصر من الجيش الجزائري لنجدة صدام حسين، مؤكدا أن الجزائر ليست مسؤولة علي إخفاقات صدام. وأضاف خالد نزار 'الشعور بالتعاطف والتضامن مع الشعب العراقي الشقيق الذي أوصله إلي المأساة ديكتاتور متغطرس أشعر بها ككل الجزائريين، ولكن الأحاسيس النبيلة شيء ومصالح بلادي شيء آخر'.
انتهي*472**2041** 2342