
كانَ لافِتًا أنّ إيران التي مِن المُفتَرض أن تكون الهَدف الأكبَر لهَذهِ الاستراتيجيّة الأمريكيّة، التي يَقومُ جَوهَرُها علي فَرضِ حِصارٍ تَجويعيٍّ عليها مُقَدِّمةً لثَورةٍ داخليّةٍ، أو عُدوانٍ أمريكيٍّ إسرائيليٍّ عَربيٍّ، تَقودان لتَغييرِ النِّظام فيها، التَزَمت الصَّمت المُطبِق مُنذ أن بَدأت الأزَمَة، ووقَفَت مَوقِف المُتفَرِّج، وأبْدَت تَعاطُفًا “مَلغومًا” مع السُّلطات السعوديّة، في انعِكاسٍ يَصعُبُ إخفاؤه للدَّهاء الإيرانيّ في أوْضَحِ صُوَرِه، حتّي أنّ هذا الصَّمت حَظِيَ بإعجابِ بَعضِ الكُتّاب السَّعوديّين.
عمليّة اغتيال الخاشقجي، وتَفاصيلِها البَشِعة جاءَت في وَقتٍ كانَت تسعي فيه إدارة ترامب إلي تَشكيلِ تَحالُفٍ عَربيٍّ سُنِّيٍّ، تَقودُه السعوديّة، يَضُم دُوَل الخليج (الفارسي) السِّت إلي جانِب مِصر والأُردن، وقَبل ثلاثَة أيّامٍ فقط مِن بِدءْ الحِصار الخانِق علي إيران الأمر الذي أدَّي إلي إجهاضِ هَذهِ الخُطوَة الاستراتيجيّة وهِي في مَهْدِها.
المملكة العربيّة السعوديّة باتَت تَعيشُ حالةً مِن الضَّعفِ غير مسبوقة حاليًّا علي المُستَويين الإقليميّ والدوليّ، انعكَس في مُوافَقتها السَّريعة علي القُبولِ بهُدنةٍ لوَقفِ الحَرب في الحديدة ودعم الجُهود الدوليّة لإعادَة الحياة إلي العمليّة السياسيّة للوُصولِ إلي تَسويةٍ للأزمةِ اليَمنيّة استجابةً لضُغوطٍ أمريكيّةٍ صَريحةٍ، وَوِفقَ شُروطٍ لا يُمكِن لها أن تقبل بِها في الظُّروف العاديّة، وقبل عمليّة الاغتيال تَحديدًا.
والأخطَر مِن إنهاءِ الحَرب في اليمن هو احتمال أن تَضطر القِيادة السعوديّة، وبضُغوطٍ أمريكيّةٍ أيضًا، إلي إنهاءِ المُقاطَعة لدولة قطر، خصمها الإقليميّ الذي يتَقدَّم علي إيران في لائِحَة أعدائِها، ولا نَستبعِد أن يكون تَنازُل سلطنة عُمان المُفاجِئ عَن حقّها في استضافَة قمّة مجلس التعاون ّ المُقرَّرة الشَّهر المُقبِل لصالِح الرياض، رُبّما جاءَ بتَرتيبٍ مُسْبَقٍ لتَهيِئَة الأجواء لمُصالَحةٍ قَطريّةٍ سُعوديّةٍ، لأنّ الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير دول قطر، تلقّي دَعوةً رسميّةً سُعوديّةً، وأكَّد حُضورَه القِمّة، وتَوارَد أنباء مِن مَصادِرٍ خليجيّةٍ عَديدةٍ عَن إحياءِ الكويت لوِساطَتها مُجَدَّدًا.
السعوديّة التي خرجت مُنهَكَةً مِن أزماتِها الرئيسيّة الحاليّة (اغتيال خاشقجي.. وحرب اليمن، ومُقاطَعة قطر، واحتواءِ نُفوذ إيران) لن تَكون في وَضْعٍ يُؤهّلها لقِيادَة التحالف العَربيّ السُّنِّيّ، ومُواجَهة إيران وقَصْقَصَة نُفوذِها وأذرُعِها السياسيّة والعسكريّة في المِنطَقة، (سورية، العِراق، فِلسطين، ولُبنان) في المُستَقبلِ المَنظورِ علي الأقَل.
الإيرانيّون في المُقابِل أداروا الهجمة الأمريكيّة الإسرائيليّة التي تَسْتَهدِفهم سِياسيًّا واقتِصاديًّا حتّي الآن بذَكاءٍ لافِتٍ، انعَكَسَ في إقامَةِ تحالفٍ استراتيجيٍّ مُضادٍّ للناتو العربيّ السنيّ، يَضُم الصين وروسيا والهِند وتركيا، عَلاوةً علي كوريا الشماليّة، وبِدَرَجَةٍ أقل أوروبا، وتَوظيفِ العُقوبات الأمريكيّة لخَلقِ جَبهةٍ داخليّةٍ مُوحَّدةٍ تَضُم الجَناحين المُحافِظ واللِّيبراليّ علي أرضيّة الدِّفاعِ عَن إيران الوَطن، وليسَ إيران النِّظام فقَط.
النِّفط الإيرانيّ يتدفّق بغَزارةٍ إلي أسواقِه الطَّبيعيّة في الصين والهند وتركيا واليابان وأوروبا، ومُنظَّمة “أوبك” تُخَطِّط لتَخفيضِ إنتاجِها بحَواليّ 500 ألف بَرميلٍ يَوميًّا للحِفاظِ علي الأسعارِ المُرتَفِعَة، الأمر الذي يَتعارَض كُلِّيًّا مَعَ كُل مَطالِب ترامب في تَخفيضِها حِفاظًا علي استمرارِ ازدِهار اقتِصاد بِلادِه والغَرب عُمُومًا.
الأزَمَة المَسكوت عنها التي تُواجِهها المملكة العربيّة السعوديّة هِي تِلك المُتعلِّقة بعَلاقاتِها “المُتَوتِّرة” مع شَريكِها الأساسيّ في حَرب اليمن، وجَبهة المُقاطَعة لدَولةِ قطر، والحَرب ضِد إيران، أي دولة الإمارات العربيّة المتحدة، فقد أكَّدت لنَا ثَلاثَة مَصادِر عربيّة تَفاقُمَ هَذهِ الأزَمَة في الأسابيع الأخيرة، حيثُ باتت الأخيرة تُدرِك أنّها تَورَّطت في أزَمَتين باتَا تُهَدِّدان وِحدَتها التُّرابيّة الداخليّة أوّلًا، وسُمعَتها الدوليّة ثانيًا، وتَحمّلها أعباءً ماليّةً وعَسكريّةً ضَخْمَةً ثالِثًا، وهي حرب اليمن واغتيال الخاشقجي، وعلي صعيد الأخيرة أعلَنت الحُكومة التركيّة “حَربَ تَسريباتٍ” مُفاجِئة ضِد دولة الإمارات عندما اتّهمتها والنائب محمد دحلان، مُستشار الشيخ محمد بن زايد، بالتَّورُّطِ في هَذهِ الجَريمة وإرسالِ فَريقٍ مِن الخُبراء تابِعٍ لها لإخفاءِ الأدلّة ووصل فِعْلًا إلي إسطنبول قادِمًا من بيروت مُكَلَّفًا بهَذهِ المُهِمَّة، ونَشَرَت هَذهِ التَّسريبات صحيفة “يني شفق” القَريبة جِدًّا مِن الرئيس رجب طيّب أردوغان، وتَخَصَّصَت في هذا الإطار، وثَبُتَ صِحَّة مُعظَم التَّسريبات التي نَشَرَتها، أو كلها في هَذهِ الجَريمة.
صحيفة “نيويورك تايمز” التي تَوحَّدت وللمَرَّةِ الأُولي في تاريخِهَا مع غَريمَتها “الواشنطن بوست” في العَداء للسعوديّة، وتَوجيهِ الاتِّهام للأمير بن سلمان بإصدارِ الأوامِر باغتيالِ الخاشقجي قالت في خِتامِ تَحليلٍ لها قبل ثلاثة أيّام أنّها، أي المملكة، باتَت في نَظَرِ مُعظَمِ الشُّعوبِ العربيّة أنّها أكثَر خُطورَةً مِن إيران بعد الاطِّلاعِ علي التَّفاصيل البَشِعَة لقَتلِ خاشقجي، وباتَت العَديد مِن الصُّحُف العَربيّة خاصَّةً في دُوَل الاتِّحاد المغاربيّ تَنْشُر دَعَواتً ومَقالاتً تُطالِب بمُقاطَعة مَوسِم الحَج، وزِيارَة الحَرمين الشَّريفَين.
لا نَعتقِد أنّ أزمَةَ اغتيال الخاشقجي، وتَبِعاتِها السِّياسيّة والإعلاميّة ستَخْتَفِي مِن صَدرِ نَشَرات الأخبار وعَناوينِ الصُّحُف الرئيسيّة، تَقليديّةً كانَت أمْ رَقمِيّةً، كَما أنّنا نَجْزِم أيضًا بأنّ شن حملات تُطالِب السُّيّاح السُّعوديين بمُقاطَعة تركيا، أو تكثيف الهَجَمات علي مُنتَقِدي المملكة وسِياساتِها، علي وسائل التواصل الاجتماعي هُوَ الرَّد الأنْجَع، لأنّ الحَل هو في نَظَرِنا يُمَثِّل في حَتْميّة إجراء مُراجَعة علي أعلي المُستَويات لكُل السِّياسات التي أوصَلَت المملكة إلي هذا الوضع غير المُريح الذي تَعيشُه حاليًّا، ابتِداءً مِن “جريمة القرن”، أي مقتل خاشقجي، وطريقة التَّعامُل المُرتَبِكَة مع تَداعِياتِها، أو خَوضِ الحَرب في اليمن، أو تَبَنِّي “صفقة القرن” لتَصفِيَة القضيّة الفِلسطينيّة، واستدعاءِ سعد الحريري بطَريقةٍ مُهينَةٍ، وزيادة وتيرة التَّطبيع السِّريّ مع إسرائيل، واستِعداء الشَّارِعَين العَربيّ والفِلسطينيّ مَعًا، ولا نَشُك مُطْلَقًا بأنّ هُناك عُقَلاء وحُكَماء، وخُبرات سُعوديّة وَطنيّة عالِيَة المُستَوي، سواء داخِل الأُسرةِ الحاكِمة أو خارِجها، يُمْكِن أن تُشارِك في هَذهِ المُراجَعات المَطلوبة بطُرقٍ علميّةٍ فاعِلة إذا ما تَقرَّر الاستعانَةَ بِها.. فتَهميشُ هَذهِ العُقول هُوَ أحَد الأسباب الرئيسيّة لتَفاقُم الأزَمات وتَضَخُّمِها، وَوُصولِ البِلاد إلي الوَضْعِ الحاليّ.. واللهُ أعْلَم.
راي اليوم : عبد الباري عطوان
انتهي ** 1837